• 9 تشرين الأول 2017
  • 7,042

سلسلة من نحب – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – (39) سيدتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :

((عمّرت أسماء مائة عامٍ ولم يسقط لها سنٌّ ولا ضرسٌ، ولم يغب من عقلها شيء))[المؤرخون]

صحابيَّتنا هذه جمعت المجد من أطرافه كلّها...

فأبوها صحابيٌّ، وجدّها صحابيٌّ، وأختها صحابيّةٌ، وزوجها صحابيٌّ، وابنها صحابيٌّ...

وحسبُها(1) بذلك شرفاً وفخراً...

أمّا أبوها فالصّدّيق خليل الرسول الكريم في حياته، وخليفته من بعد مماته.

وأمّا جدّها فأبو عتيقٍ والد أبي بكر.

وأمّا أختها فأمُّ المؤمنين عائشة الطاهرة المبرّأة.

وأمّا زوجها فحواريُّ(2) رسول الله زبير بن العوّام.

وأمّا ابنها فعبد الله بن الزّبير رضي الله عنه وعنهم أجمعين...

إنّها - بإيجاز - أسماء بنت أبي بكر الصديق...

وكفى...

كانت أسماء من السّابقات إلى الإسلام، إذ لم يتقدّم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنساناً من رجلٍ وامرأةٍ.

وقد لُقّبَت بذات النّطاقين لأنها صنعت للرسول صلوات الله عليه ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زاداً، وأعدّت لهما سقاءً(3) فلمّا لم تجد ما تربطهما به شقّت نطاقها(4) شقّين، فربطت بأحدهما المِزْوَد(5) وبالثاني السقاء فدعا لها النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يبدلها الله منهما نطاقين في الجنّة، فلُقِّبت لذلك بذات النطاقين.

تزوج بها الزُّبير بن العوّام، وكان شبه مُرْمِلاً(6) ليس له خادمٌ ينهض بخدمته، أو مالٌ يوسِّع به عياله على غير فرسٍ اقتناها.

فكانت له نِعم الزوجة الصالحة، تخدمه وتَسُوس فرَسَه، وترعاه وتطحن النّوى لعلفه، حتّى فتح الله عليه فغدا من أغنى أغنياء الصحابة.

ولمّا أُتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فراراً بدينها إلى الله ورسوله كانت قد أتمّت حملها بـِ  ابنها عبد الله بن الزبير فلم يمنعها ذلك من تحمّل مشاقّ الرحلة الطويلة، فما إن بلغت قُباء(7) حتّى وضعت وليدها.

فكبّر المسلمون وهلّلوا؛ لأنّه كان أوّل مولودٍ يولد للمهاجرين في المدينة.

فحملته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضعته في حجره، فأخذ شيئاً من ريقه وجعله في فم الصبي، ثم حنّكه(8) ودعا له...

فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكر من خصائل الخير وشمائل النُّبل ورجاحة العقل مالم يجتمع إلا لقليل من الرّجال.

فقد كانت من الجود بحيث يُضرب بجودها المثل.

حدّث ابنها عبد الله قال:

" ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمّي أسماء، لكنّ جودهما مختلفٌ.

أمّا خالتي فكانت تجمع الشّيء إلى الشّيء حتّى إذا اجتمع عندها ما يكفي قسمته بين ذوي الحاجات ...

وأمّا أمي فكانت لا تمسك(9) شيئاً إلى الغد " ...

وكانت أسماء إلى ذلك عاقلةً تُحسن التّرُّف في المواقف الحرجة...

ومن ذلك أنّه لما خرج الصديق مهاجراً بصحبة رسول الله حمل معه ماله كلّه، ومقداره ستّة آلاف درهمٍ، ولم يترك لعياله شيئاً...

فلمّا علم والده أبو قحافة برحيله –وكان ما يزال مشركاً- جاء إلى بيته وقال لأسماء:

والله إنّي لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه، فقالت له:

كلا يا أبتِ إنّه قد ترك لنا مالاً كثيراً، ثم أخذت حصىً ووضعته في الكوَّة(10) التي كانوا يضعون فيها المال، وألقت عليه ثوباً، ثم أخذت بيد جدِّها - وكان مكفوف البصر - وقالت :

يا أبتِ، انظر كم ترك لنا من المال. فوضع يده عليه وقال:

لا بأس... إذا كان ترك لكم هذا كلّه فقد أحسن.

وقد أرادت بذلك أن تُسَكِّن نفس الشيخ، وألّا تجعله يبذل(11) لها شيئاً من ماله...

ذلك لأنّها كانت تكره أن تجعل لمشركٍ عليها يداً(12) حتّى لو كان جدّها...

وإذا نَسِيَ التّاريخ لأسماء بنت أبي بكرٍ مواقفها كلّها، فإنّه لن ينسى لها رجاحة عقلها، وشدّة حزمها، وقوّة إيمانها وهي تَلْقى ولدها عبد الله اللِّقاء الأخير.

وذلك أنّ ابنها عبد الله بن الزُّبير بويعَ له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، ودانت له الحجاز ومصر والعراق وخراسان وأكثر بلاد الشّام.

لكنّ بني أميّة ما لبثوا أن سيَّروا جيشاً لجِباً(13) بقيادة الحجّاج بن يوسف الثّقفيِّ، فدارت بين الفريقين معارك طاحنةٌ أظهر فيها ابن الزبير من ضُروب البطولة ما يليق بفارسٍ كميٍّ(14) مثله.

غير أنّ أنصاره جعلوا ينفضّون(15) عنه شيئاً فشيئاً؛ فلجأ إلى بيت الله الحرام، واحتمى هو ومن معه في حمى الكعبة المعظّمة...

وقُبيل مصرعه بساعات دخل على أمّه أسماء –وكانت عجوزاً فانيةً قد كُفَّ بصرها- فقال:

السلام عليك أُمَّه(16) ورحمة الله وبركاته.

فقالت: وعليك السلام يا عبد الله... ما الذي أقدمك في هذه الساعة، والصّخور التي تقذفها منجنيقات(17) الحجّاج على جنودك في الحرم تهزُّ دور مكّة هزّاً ؟!

قال: جئت لأستشيرك.

قالت: تستشيرني!!... في ماذا ؟!

قال: لقد خذلني الناس وانحازوا عنّي رهبةً من الحجّاج أو رغبةً بما عنده، حتى أولادي وأهلي انفضّوا(18) عني، ولم يبق معي إلا نفرٌ قليلٌ من رجالي، وهم مهما عظُم جلدهم(19) فلن يصبروا إلا ساعةً أو ساعتين، ورُسُل بني أميّة يفاوضونني على أن يعطوني ما شئتُ من الدُّنيا إذ أنا ألقيت السِّلاح وبايعت عبد الملك بن مروان، فما ترين ؟

فعلا صوتها وقالت: الشّأن شأنك يا عبد الله، وأنت أعلم بنفسك...

فإن كنت تعتقد أنَّك على حقٍّ، وتدعو إلى حقٍّ، فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قُتلوا تحت رايتك...

وإن كنت إنّما أردت الدُّنيا فلَبِئس العبد أنت: أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.

قال: ولكنّي مقتولٌ اليوم لا محالة.

قالت: ذلك خيرٌ لك من أن تُسلم نفسك للحجّاج مختاراً، فيلعب برأسك غلمان بني أميّةً.

قال: لست أخشى القتل، وإنّما أخاف أن يُمثِّلوا بي.

قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشَّاة المذبوحة لا يؤلمها السَّلخ...

فأشرقت أسارير(20) وجهه وقال: بوركت من أمٍّ، وبوركت مناقبك الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه السَّاعة إلّا لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنّني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشّهيد عليَّ أنَّني ما قمت بما قمت به حبَّاً بالدُّنيا وزينتها، وإنما غضباً لله أن تُستباح محارمه... وها أنا ذا ماضٍ إلى ما تحبّين، فإذا أنا قُتلت فلا تحزني عليَّ وسلِّمي أمرك لله...

قالت: إنَّما أحزن عليك لو قُتلت في باطلٍ.

قال: كوني على ثقةٍ بأنَّ ابنك لم يتعمَّد إتيان منكرٍ قطُّ، ولا عمل بفاحشةٍ قطُّ، ولم يجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمانٍ ولم يتعمَّد ظُلم مسلمٍ ولا معاهد(21)، ولم يكن شيءٌ عنده آثر(22) من رضى الله عزَّ وجلَّ...

لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي؛ فالله أعلم منّي بي، وإنما قلته لأُدخِل العزاء(23) على قلبك.

فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يُحبُّ وأحبُّ...

اقترب مني يا بنيَّ لأتشمّم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك.

فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما(24) لثماً، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه تتشمَّمه وتقبّله، وأطلقت يديها تتلمَّس جسده، ثم ما لبثت أن ردَّتهما عنه وهي تقول:

ما هذا الذي تليسه يا عبد الله ؟!

قال: درعي.

قالت: ما هذا يا بنيَّ لباس من يريد الشَّهادة .

قال إنَّما لبستها لأطيِّب خاطرك، وأسكّن قلبك.

قالت: انزعها عنك، فذلك أشدُّ لحميَّتك(25) وأقوى لوثبتك وأخفُّ لحركتك، ولكن البس بدلاً منها سراويل مضاعفةً(26)، حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك.

نزع عبد الله بن الزبير درعه، وشدَّ عليه سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول:

لا تفتري من الدُّعاء لي يا أمَّه.

فرفعت كفَّيها إلى السماء وهي تقول: اللهم ارحم طول قيامه وشدَّة نحبيه في سواد اللّيل والناس نيام...

اللّهمَّ ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكَّة وهو صائمٌ...

اللَّهمَّ ارحم برَّه بأبيه وأمَّه...

اللَّهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك ، ورضيت بما قضيت له ؛ فأثبني عليه ثواب الصّابرين.

لم تغرب شمس ذلك اليوم إلّا كان عبد الله بن الزبير قد لحق بجوار ربه.

ولم يمض على مصرعه غير بضعة عشر يوماً إلّا كانت أمُّه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به، وقد بلغت من العمر مائة عامٍ، ولم يسقط لها سنٌّ ولا ضرسٌ، ولم يغب من عقلها شيءٌ .

 

 

للاستزادة من أخبار أسماء بنت أبي بكر انظر :

1- الإصابة الترجمة: 46.

2- أسد الغابة: 5/392-393.

3- الاستيعاب (طبعة حيدر آباد): 2/704-705.

4- تهذيب التهذيب: 12/397.

5- صفة الصفوة: 2/31-32.

6- شذرات الذهب: 1/80.

7- تاريخ الإسلام للذهبي: 3/133-137.

8- البداية والنهاية: 8/346.

9- أعلام النساء لكحالة: 1/36.

10- عبد الله بن الزبير من سلسلة أعلام العرب للدكتور الخربوطلي.

11- سير أعلام النبلاء: 2/208.

12- قلائد الجمان: 149.

13- النجوم الزاهرة: 1/189.

14- المحبَّر: 22-54-100.

أسماء بنت أبي بكر

 

  1. حسبها: يكفيها.
  2. الحواري: النصير، وحواريو الرّسل أنصارهم.
  3. السقاء: القربة وغيرها مما يوضع فيه الماء.
  4. النطاق: ما تشدُّ به المرأة وسطها.
  5. المِزْوَد: كيس يوضع فيه الزاد للمسافر.
  6. مرملاً: فقيراً.
  7. قباء: قرية على بعد ميلين من المدينة.
  8. حنّكه: مضغ شيئاً ووضعه في حنكه.
  9. لا تمسك شيئاً: لا تستبقي شيئاً.
  10. الكوّة: تجويف في الحائط أو نافذة صغيرة.
  11. يبذل لها: يعطيها.
  12. اليد: الصّنيعة والمِنّة والمعروف.
  13. جيشاً لجيّاً: جيشاً كثيفاً جراراً.
  14. الكميُّ: البطل الشُّجاع.
  15. يتفضّون عنه: يتفرقون عنه.
  16. يا أمّه: يا أمَّاه.
  17. منجنيقات: جمع منجنيق، وهو آلة حربية كانت تقذف بها الصخور ونحوها على المعاقل والحصون.
  18. انفضّوا: تفرقوا.
  19. جلدهم: صبرهم واحتمالهم.
  20. أسارير وجهه: محاسن وجهه.
  21. المعاهِد: الذميُّ.
  22. آثر: أفضل
  23. العزاء: الصبر.
  24. يوسعهما لثماً: يملأهما تقبيلاً.
  25. أشدُّ لحميتك: أقوى لنخوتك وشجاعتك.
  26. مضاعفة: طويلة.

 

مقالات ذات صلة :